الإمامة والدولة
بين الفقه السياسي الإسلامي والدساتير المعاصرة
علي جبلي
(1) هل الدولة من أصول الدين أم من فروعه؟
في وقت تجاوزت فيه الأمم الأخرى مسألة انتقال السلطة وتحديد الآليات المنظمة لها، ونصت دساتيرها على أن الشعب مالك السلطة، وهو المعني بمراقبة الحاكم ومحاسبته، لا تزال بعض الدول تعيش أزمة تتعلق باختيار الحاكم، سواء فيما يتعلق بالشروط أو آليات الاختيار، وأزمات أخرى متعلقة بالتفاصيل والإجراءات، ومع أن الإسلام قد ترك للأمة الحرية في اختيار من يحكمها والآليات المناسبة لذلك، فإن التصورات المناهضة لحرية الاختيار هي سيدة الموقف في عالمنا العربي، وهي تُغلف- للأسف- في كثير من الأحيان بنصوص دينية وأخرى سلطوية، تكبل الأمة وتلغي حقها في اختيار حكامها، وفي هذه السلسلة سنناقش عدداً من المسائل المرتبطة بهذا الموضوع، ولعل أول هذه المسائل التي تشكل مدخلاً مهماً في هذا الموضوع ما يتعلق بأمر الإمامة والحكم وموقعه في الشريعة الإسلامية وتراث الفرق الكلامية.
تعد مسألة الحكم من أهـم المسائل التي طال الخلاف فيها وتوسع، وزاد من تعقيدهـا اعتبارهـا من مباحث علم الكلام والعقيدة لدى بعض الفرق الإسلامية كالاثني عشرية والزيدية، بخلاف أهل السنة التي هـي عندهـم من مباحث الفقه، حيث يرى ابن تيمية في منهاج السنة أن “غايتهـا أن تكون كبعض الواجبات: كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما يدخل في طاعة الله ورسوله”، وجرت عادة بعض المؤلفين من السنة ذكرهـا في مباحث علم الكلام، تماشياً مع الشيعة الذين يذكرونهـا في هذا الباب، وكذلك من منطلق الرد عليهم، قال عبد الرحمن بن أحمد الأيجي في كتابه “المواقف في علم الكلام”: “والإمامة عندنا من الفروع، وإنما ذكرناهـا في علم الكلام تأسيًا بمن قبلنا“.
والفَرق بين الأمرين أن الأول يجعل هذه المسألة من المسائل الثابتة التي تميز الجماعة عن غيرها، في حين يجعل المبحث الفقهي من الإمامة قضية مرنة مستوعبة للواقع، مُكيفة للجديد على ضوء القواعد العامة للدين، والخلاف فيها وارد، وتجاوز ما ليس بصالح منها للزمان والمكان واجب؛ لكن القضايا الكلامية بقيت كما هـي، وربما يصعب المساس بها إلا في طريقة تنزيلها وشرحهـا، كما أنها رمز للجماعة ودليل بقائهـا فرقة مستقلة.
وهـكذا أُقحمت تلك المسائل المتعلقة بالإمامة بأصول الدين، مكتسبة أحقيتها من بعض النصوص العامة الدالة على القضاء والأمانة والطاعة، ومعتمدة على الخلافات السياسية التاريخية، على خلاف البدايات الأولى للصراع السياسي، التي لم يأخذ فيها هـذا الأمر بعداً دينياً موغلاً، واكتسب البعد القبلي حضوره في المشهـد، مستمداً وجوده من الصراعات القبلية قبل الإسلام بين القبائل القرشية بعضهـا مع بعض، كما كان بين بني أمية وبني هاشم، أو بعد الرسالة كما كان بين الأنصار والمهـاجرين، أو ما حصل بعد ذلك من خلاف بين الأمويين والهاشميين بقسميهـم العباسي والعلوي، ثم بين العباسيين والعلويين فيما بينهم.
لقد كانت البدايات الأولى لإقحام النصوص الدينية في مسائل الحكم في عهد الأمويين، إذ لجأوا إلى الخطاب الديني لتثبيت حكمهم ومقاومة خصومهـم المعارضين، واستُحضرَت نصوص الجبرية لتعميد هذا التحول، ثم تطور الأمر إلى تعظيم الحكم وتقديس الحاكم، وهـذا التحول الذي حصل في تقديس الإمامة والإمام ربما كان مصدره بيئة أخرى خارج البيئة الإسلامية، كما يرى المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه “العقل الأخلاقي العربي”، حيث يُرجع هـذا التحول إلى عهـد هـشام بن عبد الملك، الذي تُرجم في زمنه الموروث الفارسي، خاصة منه ما يتعلق بالملوك والآداب السلطانية والبرتوكول والسياسة والأخلاق والكتاب، وفي هـذا الإطار يقول أبو عثمان الجاحظ في كتابه “التاج في أخلاق الملوك” في بيان مدى تأثر الثقافة الإسلامية بالموروث الفارسي: “وعنهم أخذنا قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية، وإلزام كل طبقة حظهـا“.
يعد الـمَلِك عنصراً أساسياً وضرورياً في الأخلاق الكسروية، وطاعة الـمَلِك هـي القيمة المركزية في هذه الأخلاق، ولتعزيز منزلته وُظفت كتب ونُسجت أساطير لتخليد هذه القيمة في وجدان الفرس، وبهم تأثرت الحياة السياسية العربية، ومن المجالات التي تأثرت بها- بحسب رصد الجابري- تأسيس الملك على الدين، وحراسة أهـله من أن ينقلبوا على الـمَلِك، وترسيخ فكرة خلافة الله، وتمجيد الطاعة، وربط العدل بالعمارة والمال، والجند من أجل مصلحة الملك ودوامه، وتقديس شخصية الملك، واعتبار الرعية عبيداً، وتنصيب الـمَلِك وسيطاً بينهم وبين الله، وقد انتقلت هذه القيم إلى المجتمع العربي ورسخها رجال الدين الرسميون، وخصومهـم من حاملي لواء المعارضة والثورة عليهم، وهذه الثقافة التي تأثر بها الحكام الأوائل تجعل الدين خادماً للدولة، وتحوله إلى أداة تسويغ لا رسالة تغيير، فهـو يمنح الملوك شرعية استخدام الدين في ترسيخ ملكهـم، والتحكم في رقاب رعيتهـم، ومحاربة خصومهـم السياسيين، ويُرسخ ما يُسمى بتأميم الدين واستخدامه.
هذه القيم كما تأثر بها رجال السلطة، كذلك أثرت في رجال المعارضة؛ لأن العلاقة بين السلطة ومقاومتهـا ليست علاقة خارجية، والمقاومة لا تقاوم خارج السلطة، بل هـي رجع صدى لآليات السلطة العاملة، فلا يمكن تصور السلطة خارج المقاومة، وحيث هـناك سلطة فهـناك مقاومة، فهـم يتحركون فوق أرضية واحدة، وبقواعد إنتاج واحدة للحقيقة، والمهـارة تكمن فيمن ينجح في توظيف الإمكانات المتاحة، واستثمار أنظمة الحقيقة التي باتت عرفاً مسلماً به لمصلحته، وبهذا نفهـم واقع التشيع في مسار التاريخ الإسلامي الذي لم يكن حلقة اجتماعية مغلقة أخذت تنشئ تمثلاتهـا ورؤاهـا العقائدية والسياسية بعيداً عن مجرى الحياة العامة وخطاب السلطة نفسها، والتشيع في التاريخ جزء من التنافس على المشروعية، واشتبك مع منافسيه على أرضية مشتركة في استثمار الحقيقة، وإعادة إنتاجهـا أو تأويلها لمصلحته، كما يرى الباحث وجيه قانصو في كتابه “الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ“.
وفي حقيقة الأمر أن كل دعوة تسعى لتغيير الواقع أو تصويبه تشتبك مع الظروف المغايرة لها؛ ولهذا تبحث عن الأمور التي توفر لها الانطلاق وتحرسهـا من الانتهـاء، ومن ذلك التشكلُ في كيان اجتماعي أو سياسي كبير، والدعوات ذات الغاية الدينية تستخدم الوسائل السياسية والاجتماعية لتأمين بقائهـا، أو العكس، وهذا الأمر يعد انعكاساً مباشراً للخلط بين التشريع الإلهي وإفرازات الصراع السياسي.
وهكذا أثر عاملان مهمان في هذا الموضوع:
الأول: تراكمات الصراعات القبلية قبل الإسلام وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: التجارب السياسية المجاورة.
وهذه التراكمات لا تزال حاضرة في عصرنا، ومؤثرة في عقول بعض المعاصرين وفكرهم، وهي نوع من الظلم للإسلام والمسلمين، حيث تعد أول جناية فيما يتعلق بالحكم اعتباره أصلاً من أصول الدين، ثم جعل إقامة الحاكم واجباً شرعياً بالمفهوم الذي يريد احتكار الفلسفة والإجراء، وحتى الشكل نفسه عند بعضهم، وهـذا معناه التوقف والجمود، وهو بخلاف ما كان شائعاً في البدايات الأولى، حتى إننا نجد أن بعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة والخوارج لهم رأي مغاير لما شاع من آراء السنة والشيعة حينها، حيث يرى الجاحظ وأبو القاسم الكعبي وأبو الحسين الخياط أن الإمامة واجبة بالعقل والشرع معاً؛ وقد اختار بعض المعتزلة أن وجوبها عقلي لا شرعي، وهذا ربما يعود لأصل مذهـبهم الذي يرى أن العقل يدرك بمفرده الحسن والقبح، وفي هذا تخفيف كبير لهذه المسألة، وإزالة للقيود المصطنعة والشروط المتكلفة والأسوار التي أحاطت بها كثير من الفرق نظرياتها السياسية.
وتوضيح هذا الرأي: أن الدين لم ينص على وجوب إقامة الحاكم، ولا على وجوب الترك، بل ترك الأمر للمسلمين، فإذا احتاجوا إليه فيمكن اختياره، وهذا هو المنقول عن النجدات من الخوارج وجماعة من المعتزلة مثل أبي بكر الأصم وهـشام الفوطي، وللدكتور محمد عمارة توضيح مهم في هذا الموضوع حيث يرى أن استبعاد هـؤلاء أن يكون الشرع طريق وجوبها؛ لأنه ليس هـناك نص متواتر على وجوبها، ولا إجماع على وجوبها كذلك، وما حدث في عهـد أبي بكر من إجماع لا يعتد به؛ لأنه غير مستند إلى نص شرعي، كما أن هـناك من لم يبايع، ولهذا فإن النجدات والأصم والفوطي يُخرجون هذه القضية من إطار الشرع والدين إلى إطار المصلحة المدنية للمجتمع، فعندما تكون هذه المصلحة ضرورية لإقامة العدل، والعدل واجب، فإن وجوبها يصبح أمراً لا نزاع فيه، لأنها تستمد وجوبها هـذا من الوجوب الدائم لإقامة العدل بين الناس، أما إذا قام العدل بين الناس، وانتفت المظالم وأسبابها واحتمالات ظهـورهـا في المجتمع فإن العدل الواجب يكون قد تحقق، فكأن الإمامة متحققة، ولهذا لا وجه ولا مبرر لإقامة سلطة حاكمة قد انتفت دواعي قيامهـا في هـذا المجتمع العادل.
وهذا الرأي هو أقرب الآراء انسجاماً مع الواقع، وانسجاماً مع مقاصد الشريعة الإسلامية، حيث يميز علماء الأصول بين العبادات وغيرها تمييزاً واضحاً، ولهذا يقول الشاطبي في موافقاته: “من مقصد الشارع التفريق بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني”، ويرجع الشاطبي العبادات إلى حفظ الدين، كالإيمان والشهادتين والصلاة والزكاة وغيرها، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل والنسل والمال، وأمور الدولة مرتبطة بهذه الأربعة الأخيرة.
وهكذا يجب التمييز في حياتنا بين العبادات والعادات، فالعبادات تم التفصيل فيها شرعاً، والعادات، وهي ما يتعلق بجوانب التدبير البشري، ومنها تلك الأمور المتعلقة ببناء السلطة وأدائها، خاضعة للاجتهاد والموازنة البشرية، وهذا التمييز مهم؛ لأن الخلط بينهما من مداخل الغلو في الدين الذي ما زلنا نعاني آثاره إلى يومنا هذا، وهذا المعنى يوضحه الجويني في غياثه حيث يقول: “ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع خلية عن مدارك اليقين“.
على أن ذلك لا يعني أن هذه المسائل مقطوعة الصلة بالدين، بل هي داخلة في عموم التوجيهات والقواعد الأساسية، وتخضع للتوجيهات والقيم العامة التي جاء بها الإسلام، وأغلب تلك التوجيهات والقيم والقواعد لا تختلف عليها العقول البشرية، وتبقى الآليات والإجراءات خاضعة لمتطلبات الواقع وتجارب البشر، تحكمها الصلاحية والقدرة، وما سبق من تصرفات واجتهادات وأشكال وأنظمة هي تجارب بشرية خاضعة للنقاش والتداول مثلها مثل بقية التجارب الإنسانية، ويمكن الاستفادة منها ما لم يكن هناك ما هو أصلح منها للواقع، لأنها متروكة للاجتهادات البشرية، والبحث فيها يكمن في البحث عن صلاحيتها وقدرتها على الاستمرار وعدم تعارضها مع قواعد الإسلام العامة.