الإمامة والدولة بين الفقه السياسي الإسلامي والدساتير المعاصرة
علي جبلي
2) حرية اختيار الحاكم
جاء الإسلام بقيم وقواعد تنظم الحياة كلها، ومن أهمها تلك القيم المتعلقة بشؤون الحكم والسياسة، وعلى رأسها حق الأمة في اختيار من يحكمها، فالأمة هي مالكة السلطة ومدبرة الشأن، وهي من تقوم بكل أشكال المراقبة والمحاسبة والعزل، وهذا الحق كفله الإسلام، وأكدته الدساتير الحديثة، فلم يكن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للاستخلاف من بعده حدثاً عفوياً أو أمراً عادياً، بل كان فيه من القصد ما يكفي لإشعار الأمة أنها أقدر على حفظ مصالحها بما يتوافق مع الواقع، وهو اعتراف بإرادة الأمة وأحقيتها في الاختيار.
إن اختيار الحاكم حق للأمة عن طريق الشورى، وللأمة أن تحدد الآلية التي بها تطبق هذا الحق، فاختيار الوسائل الممكنة أمر متروك لمعطيات الزمان والمكان والإمكان، ولقد تضافرت الأدلة من القرآن والسنة لتبيين أمر الشورى؛ بل واقترنت بالعبادات الشعائرية في بعض الآيات كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الشورى: 38)، فهذه الآية تجمع بين الصلاة والشورى والصدقة في بيان صفات المؤمنين؛ بل إن الله تعالى قد أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم لموقفه المؤيد للشورى ونتائجها في قرار من أخطر القرارات، وهو القرار المتعلق بغزوة أحد، وأيهما أفضل للمسلمين في المدينة؛ البقاء بها أم الخروج، فنزل الوحي مؤيداً لهذا الإجراء الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159)، يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه (الإسلام وفلسفة الحكم): “فالرسول صلى الله عليه وسلم قد استمع إلى مشورة أصحابه فتحقق الضرر؛ ولكن القرآن ينبه على أن هذا الضرر رغم فداحته هو أخف الضررين، لأنه لو لم يستمع لرأيهم ومشورتهم لتفرقوا وانفضوا من حوله، وهذا ضرر أعظم”.
إن الشورى في الإسلام لها أهميتها الكبيرة في حياة الأسر والمجتمعات والدول، وهي العمود الفقري في سلطان الأمة ونهوضها بأمانة الحكم على أساس المشاركة والتعاون والمسؤولية، وهي مشاركة خولها الله أمته في مستوى التشريع والتنفيذ في تأسيس الحكم والتشريع له والقوامة عليه والانتفاع بثماره كما يذكر راشد الغنوشي في كتابه (الحريات العامة في الإسلام)، ولهذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مشاورة الصحابة فيما يتعلق بأمور الأمة العظيمة، ونزل عند رأي أغلبهم، وإن رأى أن هناك رأياً أصوب أخذ به، إلا في أمور الوحي، والآيات السابقة تؤكد- بما لا يدع مجالاً للشك- أن أمر الأمة شورى، وأنهم هم من يختارون حكامهم ويراقبونهم ويحاسبونهم ويعزلونهم، وهذا هو فهم الصحابة رضي الله عنهم الذي تحول إلى واقع عملي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اجتماعهم في السقيفة تطبيقاً واضحاً لهذه النصوص القرآنية، ولا يحصل التعبير الصحيح عن إرادة الأمة إلا إذا كان اختيارهم من مجموع الأمة، وكان هذا الاختيار صريحاً وليس شكلياً أو مزوراً.
لقد كان اجتماع السقيفة أول اجتماع في تاريخ المسلمين لاختيار حاكمهم، ولم تكن هناك قواعد يمكن الاعتماد عليها في تحديد الخليفة سوى فهوم عامة ومتباينة، جرى تداولها داخل أروقة السقيفة في حوار بناء وتبادل للآراء شفاف من دون إكراه ولا فرض، ليوافق بعد ذلك الجميع على رأي واحد، سواء من بايع منهم في ذلك الوقت أو من بايع متأخراً، وقد تُرك الأمر للأمة حتى تشعر بأنها هي من اختارته، وهو ما يجعلها أكثر التزاماً وتقبلاً.
وهكذا كان الرعيل الأول يؤمن بالشورى اعتقاداً ويمارسها واقعاً، فكان عمر الفاروق رضي الله عنه يقول: “الإمارة شورى بين المسلمين، من بايع رجلاً دون شورى المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه”، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: “أيها الناس، إنما الأمير من أمَّرتموه”، وهكذا حتى جاء عهد معاوية رضي الله عنه، وتحول الأمر من الشورى إلى غيرها من دعوى الوصية والأحقية، وبهذا حدث التراجع، وبدأ استخدام النصوص لسلب حق الأمة في اختيار من تريد، ولم ترض الأمة بذلك في بادئ الأمر، وقاومت تحويل الأمر من الشورى إلى الملك الوراثي العضوض، وكان ممن عارض هذا الإجراء الخطير عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، الذي واجه معاوية رضي الله عنه وقال له: “إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردن هذا الأمر شورى بين المسلمين، أو لنعيدنها عليك جذعة”، ثم خرج.
وبهذا حدث التحول، وتطورت ردود الأفعال السابقة المتعلقة بأحقية القرابة في الحكم إلى نصوص يُستدل بها على التعيين الرباني، وهذا التحول والتحول المضاد لم يكن مقبولاً لدى عدد من المسلمين، والقمع الذي تعرض له المناهضون لذلك، أعاد العصبية الجاهـلية التي تجاوزهـا المسلمون، ومع هـذا لم يقبل المسلمون بهذا التحول، وقاوموا ذلك من خلال عدد من الثورات، سواء تلك التي كانت في القرن الأول الهجري، أو تلك التي تبعتهـا فيما بعد.
ففي القرن الأول انفجر عدد من الثورات كان منها ثورة الصحابي عبد الله بن الزبير، وهـو من أوائل من رفض البيعة ليزيد بن معاوية، ولما مات يزيد سنة (64هـ) بايعه الناس بالخلافة، وخضعت له الحجاز واليمن والعراق، وقد كان ابن الزبير يؤمن بالشورى وحق الأمة في اختيار حكامهـا، حيث قال عنه المطهـر بن طاهـر المقدسي: “وأما عبد الله بن الزبير فامتنع بمكة ولاذ بالكعبة، ودعا الناس إلى الشورى، وقال لا يرضى الله بعهـد معاوية إلى يزيد، وإنما ذاك إلى عامة المسلمين، فأجابه الناس إلى ذلك ورأوا الحق فيه”، وهـكذا كانت ثورة ابن الزبير إحدى الثورات التي قامت مبكراً رفضاً لهذا التحول السياسي في تاريخ الأمة.
أما في المدينة فقد كانت ثورة عبد الله بن حنظلة وعبد الله بن مطيع، وهذه الثورات وغيرها كان لها عدد من المطالب من أهمها إعادة الأمور إلى أهـلها؛ لكنها انتهـت لأسباب تتعلق بالقمع الذي مورس ضدها، وسوء الإعداد الذي مارسته، فكانت استباحة المدينة في وقعة الحرة نهـاية ثورة أهـل المدينة، وكانت استباحة مكة وإحراق الكعبة نهـاية ثورة ابن الزبير، وانتهـت ثورة التوابين بمذبحة عين الوردة، وثورة الفقهاء بمعارك دير الجماجم.
هذه الفوضى ورثت بعض المسلمين ميلاً نحو الرضى بالأمر الواقع والتسليم المطلق للديكتاتوريات، كما يرى عبد القادر عودة في كتابه “الإسلام وأوضاعنا السياسية”، وهذا الرضى على خلاف مبادئ الإسلام الذي يعطي الأمة حق اختيار حكامها ومحاسبتهم وعزلهم، ويجعل هؤلاء الحكام بمنزلة النواب عن الأمة؛ لكن الحكام وبعض الفقهاء- ويا للأسف- تآمروا على الأمة الإسلامية فسلبوها حقوقها، وجعلوا من أفرادها عبيداً للحكام، ومن الحكام سادة يأمرون فلا يُرد لهم أمر ولا يُناقشون في طلب، ويتصرفون في حقوق الأمة ومستقبلها وأرواح أبنائها دون رقيب ولا حسيب.
ومع ما حدث من الاستسلام وفتاوى التبرير من البعض، فإن أغلب أهل السنة يقولون بالاختيار، بخلاف قلة من الظاهـرية وأصحاب الحديث قالوا إن خلافة أبي بكر الصديق كانت بالنص؛ لكن الغالبية منهم على أنه لا نص في الإمامة، وأما المعتزلة فإنهم يرون أن طريق الإمامة هـو الاختيار، ولهذا يقول القاضي عبد الجبار في كتابه (المغني في أبواب التوحيد والعدل): “إنه قد ثبت بالشرع أن الصلاح في إقامة الأمراء والحكام والعمال أن يكون على الاجتهـاد والاختيار”، وهذا بخلاف تلك الفرق التي ترى النص والوصية، كما سيأتي معنا لاحقاً.
لم يكن هناك أحد أحق بأمر الأمة منها هي، فهي مالكة السلطة ومصدرها، وليس هناك نص قاطع يلزم الأمة باختيار أحد؛ وذلك لأن أكثر مسائل الولاية خاضعة لتقدير عقلاء الأمة في كل زمان ومكان بما يتناسب مع المتغيرات، ولهذا يقول الجويني: “ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع، خلية عن مدارك اليقين” ، وهذا ما فهمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم؛ يقول الدكتور محمد سليم العوا معلقاً على ذلك: “الثابت تاريخياً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعين للمسلمين من يقوم بأمر الدولة الإسلامية بعد وفاته، بل لم يحدد رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريقة التي تُتبع في اختيار الحاكم بعده، وإنما أوضح القواعد العامة التي يجب أن يراعيها الحاكم في سيرته في المسلمين، وبيَّن بسيرته وأقواله المثل العليا التي يجب التمسك بها والمحافظة عليها من جانب الحاكم والمحكومين على السواء”، ولهذا فإن القائلين بالنص جردوا مجموع الأمة من الثقة التي تؤهلها لحمل أمانة الاختيار فوضعوا هذه الأمانة في الله وعلى الله، في حين وثق أصحاب الاختيار بمجموع الأمة فحملوها هذه الأمانة، وقالوا بعصمة جماعة المسلمين عن أن تجتمع على ضلال، وجعلوها من شؤون البشر يقررون فيها ما يتفق ومصلحتهم في هذه الدنيا، التي على صلاحها يترتب صلاح أمور الدين، وللدكتور محمد عمارة كلام نفيس في هذا الموضوع في كتابه (الإسلام وفلسفة الحكم)، بل يرى أن فكر المعتزلة وكل من قال بالاختيار قد أرسى منذ قرون عدداً من المبادئ والأسس لبعض أشكال الممارسات الديمقراطية التي يشهد عصرنا تطبيقها فيما يتعلق باختيار السلطة العليا في البلاد، وهم بهذا قد أسهموا في الفكر السياسي الإنساني بنصيب، وبخاصة عندما وقفوا إلى جانب الشورى والاختيار ضد النص والتعيين، وهذا الذي صار في ظروف العصر الحالي انتخابات يسهم فيها من اجتمعت لهم شروط اتفق عليها في دساتير هذه البلاد وقوانينها.
وهكذا يتبين لنا مما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك هذا الأمر لرضى الناس واختيارهم، ولم يَدَّع أحد من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى هذا الحق أحداً دون الآخر، وهكذا فإن الشعب هو مصدر السلطة ومالكها، وهو صاحب الكلمة الأولى، وهذا هو فهم الصحابة الكرام وأتباعهم، وما حدث ويحدث هو ابتعاد عن الأصل الذي أُسست على ضوئه الدولة الأولى، وإنه لمن المؤسف أن هذه المبادئ أصبحت مطبقة في الأنظمة الغربية المعاصرة أكثر من البلدان التي نشأت فيها، بل يرى الدكتور الصلابي أنه بأدنى نظرة على أساس نظرية العقد الاجتماعي التي صاغها “جان جاك روسو” لتكون بمنزلة أصل تنطلق منه الديمقراطية التي أراد الغرب أن يتخذها منهجاً لسياسته وحكمه، يتبين أنها لا تبتعد عن فكرة البيعة في الإسلام، بل يبدو بوضوح أنها مستقاة منها ولا يُستبعد ذلك؛ لأن أوروبا دخلها العلم قديماً في أيام صراعها في القرون الوسطى مع البابا ورجال الإقطاع عن طريق العرب والمسلمين في الأندلس التي بلغت في العلم والتطور شأواً بعيداً.